الأمم المتحدة وغزة- صمتٌ مدوٍّ عن مجاعةٍ تُزهق الأرواح

المؤلف: د. محمود الحنفي08.23.2025
الأمم المتحدة وغزة- صمتٌ مدوٍّ عن مجاعةٍ تُزهق الأرواح

في أتون هذا العالم المتخم بالصور والتقارير والبيانات المتدفقة بلا هوادة، تندر اللحظات التي تتجلى فيها الكوارث بوضوح صارخ، وتفوق في قسوتها أي احتمال.

غزة، اليوم، ليست مجرد ضحية للقصف المتواصل، بل تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت وطأة الجوع. أطفال يودعون الحياة في أحضان أمهاتهم، وشيوخ يتشبثون بالبقاء من خلال اقتياتهم على الأعشاب، وعائلات بأكملها تتضور جوعًا في انتظار قوافل الإغاثة التي طال انتظارها. بل إن المئات من الفلسطينيين الأبرياء لقوا حتفهم وهم ينتظرون المساعدة، بنيران أولئك الذين يفترض بهم تقديم العون لا القضاء على آخر خيوط الأمل.

أمام هذا المشهد المروع، يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري: لماذا لم تبادر الأمم المتحدة حتى الآن إلى إعلان ما يحدث بأنه "مجاعة"؟

هذا السؤال ليس مجرد ترف لغوي أو عاطفي، بل هو سؤال ذو أبعاد قانونية وإنسانية عميقة. إن إعلان المجاعة ليس مجرد توصيف مأساوي للواقع، بل هو بمثابة ناقوس خطر يستدعي تحركًا فوريًا من المجتمع الدولي. ومع ذلك، حتى هذه اللحظة، وعلى الرغم من الكم الهائل من الشهادات الموثقة والتقارير المفصلة والصور الصادمة، لا تزال الأمم المتحدة تلتزم الصمت الرسمي بشأن هذا الوصف الخطير.

هذا المقال يسلط الضوء على ملابسات هذا التردد. سنقوم بتحليل المعايير الفنية التي تعتمدها المنظمة لإعلان المجاعة، واستعراض الشهادات الميدانية المروعة، وتحليل الأبعاد السياسية والقانونية التي قد تفسر هذا الصمت المطبق. والأهم من ذلك، نسعى للإجابة على سؤال محوري: هل الأمم المتحدة عاجزة عن اتخاذ قرار الإعلان؟ أم أنها، في لحظة الحقيقة، اختارت الحياد والالتزام بـ "المهنية" على حساب أرواح البشر؟

المعايير الفنية والإجرائية لإعلان المجاعة

لفهم أسباب عدم إعلان الأمم المتحدة عن حالة المجاعة في غزة حتى الآن، يجب أن ندرك المعايير الفنية والإجراءات التي تعتمدها لتصنيف الأزمات الغذائية.

في عام 2004، قامت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (FAO) بتطوير ما يعرف بنظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، وهو إطار تحليلي معتمد دوليًا يستخدم لتحديد درجة انعدام الأمن الغذائي بناءً على مؤشرات كمية ونوعية موحدة. يتكون هذا النظام من خمس مراحل، تبدأ من المرحلة الأولى (وضع طبيعي) وتنتهي بالمرحلة الخامسة، التي تصنف على أنها مجاعة وفقًا للمعايير الثلاثة التالية:

  • انعدام غذائي حاد يعاني منه ما لا يقل عن 20% من الأسر: وهذا يعني أن خُمس الأسر أو أكثر تعاني من نقص حاد في الغذاء، ولا تجد ما يسد رمقها، مع عدم القدرة على التكيف مع الوضع.
  • سوء تغذية حاد يصيب أكثر من 30% من الأطفال دون سن الخامسة: وهذا يعني أن أكثر من ثلث الأطفال الصغار يعانون من الهزال أو سوء التغذية الحاد نتيجة لنقص الغذاء.
  • معدل وفيات مرتفع بسبب الجوع: وهذا يعني تسجيل أكثر من حالتي وفاة يوميًا لكل 10 آلاف شخص نتيجة للمجاعة، أو بسبب التداخل بين سوء التغذية والأمراض.

عندما تتحقق هذه المعايير الثلاثة مجتمعة في منطقة معينة، يتم تصنيف الوضع على أنه مجاعة (المستوى الخامس وفقًا لتصنيف IPC). يعتمد هذا التصنيف على جمع بيانات دقيقة تشمل مسوحًا ميدانية لنمط استهلاك الأسر، ونسب سوء التغذية من خلال الفحوص الطبية للأطفال، ومعدلات الوفيات في المستشفيات والمراكز الصحية.

تتشارك وكالات أممية كبرى مثل برنامج الغذاء العالمي (WFP)، ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، بالإضافة إلى منظمات الإغاثة، في جمع هذه البيانات وتحليلها ضمن فرق عمل متعددة التخصصات.

عادةً ما يتم اتخاذ قرارات التصنيف بتوافق الآراء بين الخبراء والجهات المعنية من خلال ما يعرف بـ "الإجماع التقني متعدد الأطراف". حيث تتم مناقشة النتائج ضمن مجموعات عمل تضم وكالات الأمم المتحدة والسلطات المحلية (عند وجود حكومة معنية)، ثم يتم رفع التوصية النهائية لإقرار التصنيف رسميًا.

في بعض الحالات، يتم تشكيل لجنة مراجعة مستقلة لضمان دقة التصنيف، كما حدث في حالة غزة، حيث تم إنشاء لجنة مراجعة المجاعة لتقييم الوضع في ظل نقص البيانات.

ومع ذلك، فإن إعلان المجاعة ليس مجرد قرار تقني بسيط، بل يواجه عقبات منهجية، خاصة في مناطق النزاع. ففي غزة، يعزى تأخر الإعلان إلى نقص البيانات الميدانية الموثوقة، نتيجة للحصار والظروف الأمنية التي منعت الصحفيين وعمال الإغاثة من الوصول إلى المناطق المتضررة.

كما أدى انهيار النظام الصحي وانقطاع الاتصالات إلى غياب التوثيق لحالات الوفاة المرتبطة بالجوع، حيث إن العديد من الضحايا فارقوا الحياة خارج المستشفيات، بعيدًا عن أعين الإحصاءات.

هذه الثغرات تجعل استيفاء معايير المجاعة أمرًا معقدًا من الناحية الشكلية، على الرغم من أن الصور والروايات القادمة من الميدان تروي مأساة لا يمكن إنكارها. وكما قال أحد عمال الإغاثة: "في شمال غزة، الناس لا يموتون في المستشفيات، بل خارجها... دون أن يراهم أحد".

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن إعلان المجاعة على المستوى الدولي هو خطوة نادرة ومحصورة للغاية، ولا يتم اللجوء إليها إلا في حالات استثنائية للغاية، وبعد التحقق من معايير صارمة يصعب استيفاؤها بالكامل، خاصة في ظروف النزاع، مما يجعل الجهات الأممية تتوخى حذرًا شديدًا قبل إطلاق هذا الوصف رسميًا.

لم يتم إعلان المجاعة إلا مرتين في السنوات الأربع عشرة الأخيرة (في الصومال عام 2011 وجنوب السودان عام 2017)، مما يعكس مدى صرامة الشروط وضرورة التحقق من الأدلة الدامغة. وعلى الرغم من أن إعلان "حالة المجاعة" لا يترتب عليه تلقائيًا التزامات قانونية جديدة أو معاهدات ملزمة، فإنه يحمل وزنًا سياسيًا وأخلاقيًا كبيرًا باعتباره نداءً عاجلاً لتحريك المجتمع الدولي.

قد ينعكس هذا النداء في زيادة المساعدات وحشد الجهود الدبلوماسية للضغط على إسرائيل. ومع ذلك، فإن الحرص على المصداقية العلمية جعل الأمم المتحدة تتجنب استخدام مصطلح "مجاعة" في غزة، ما لم تصلها بيانات تفي بالمعايير المتعارف عليها.

يتضح، إذن، ظاهريًا، أن السبب الفني الرئيسي للتردد الأممي هو غياب البيانات الموثقة الكافية - نتيجة للحصار والقتال - لإثبات المجاعة وفقًا لمعايير IPC الصارمة. وفي المقابل، يرى منتقدون أن الاعتبارات الإنسانية يجب أن تطغى على الاعتبارات التقنية الجامدة عندما تكون الأدلة الواقعية واضحة للعيان.

هذا التناقض الصارخ بين النهج الفني البحت والواقع الميداني المؤلم يكمن في صميم التساؤل حول تأخر إعلان المجاعة.

كما لا يمكن تجاهل احتمال وجود اعتبارات سياسية ضمنية تكبح صدور إعلان من هذا القبيل. فالأمم المتحدة، على الرغم من طبيعتها القانونية والإنسانية، ليست بمنأى عن التوازنات السياسية والضغوط الدولية. وقد أظهرت التجارب السابقة أن قرارات مجلس الأمن، أو إحالات المحكمة الجنائية الدولية، أو حتى بعض تقارير الأمم المتحدة ذاتها، كانت عرضة للمساومة أو التعطيل تحت وطأة صفقات سياسية أو ضغوط من الدول النافذة.

وهو ما يثير مخاوف جدية من أن يكون تردد المنظمة في إعلان المجاعة في غزة ليس فقط نتيجة لغياب البيانات الفنية، بل أيضًا نتيجة لرغبة في تجنب الاصطدام بمنظومة المصالح الدولية، وفي مقدمتها إسرائيل وحلفاؤها.

شهادات وتقارير المنظمات الإنسانية حول أزمة الجوع في غزة

مع التدهور المتسارع للوضع الإنساني في غزة، تدفقت التقارير من وكالات الأمم المتحدة ومنظمات دولية، تؤكد وصول الجوع وسوء التغذية إلى مستويات مأساوية، مما يزيد الضغط على الأمم المتحدة لإعلان المجاعة. إليكم بعض هذه التقارير:

  • وكالة الأونروا (UNRWA): حذرت مرارًا وتكرارًا من انهيار الأوضاع الغذائية، وأكدت في 20 يوليو/تموز 2025 أن أكثر من مليون طفل يواجهون خطر الموت جوعًا. ووصفت الوضع بأنه "مجزرة صامتة"، بعد تسجيل 86 حالة وفاة بسبب الجوع منذ بداية الحرب، 76 منهم أطفال.

كما أشارت إلى منع إدخال المساعدات واستهداف مراكز التوزيع، معتبرةً هذه الممارسات شكلًا من أشكال العقاب الجماعي الذي قد يرقى إلى جريمة حرب.

  • منظمة يونيسيف (UNICEF): وصفت الوضع بأنه "كارثة من صنع الإنسان"، وحذرت في 22 يوليو/تموز من أن "الجوع منتشر والناس يموتون". سجلت مستويات كارثية من سوء التغذية بين الأطفال، مع انعدام الأمن الغذائي وشح المياه النظيفة. وجهت نداءً مباشرًا: "كفى كفى. يجب إيصال المساعدات لكل العائلات فورًا".
  • برنامج الأغذية العالمي (WFP): أعلن في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 عن وجود "خطر وشيك" للمجاعة، وفي مارس/آذار 2024، أشار تقييم التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC) إلى أن شمال غزة ربما تجاوز بالفعل عتبة المجاعة.

وأكد البرنامج أن 48% من الأسر هناك تقضي أيامًا دون طعام. وحذر كبير اقتصادييه قائلاً: "عندما نعلن المجاعة، يكون الأوان قد فات".

  • أطباء بلا حدود (MSF): وثقت تصاعدًا مقلقًا في حالات الهزال الحاد بين الأطفال، حيث ارتفعت من 293 حالة في مايو/أيار إلى 983 حالة في يوليو/تموز، معظمهم دون السنتين. وقالت إن التجويع متعمد، مشيرة إلى مشاهد لأمهات بأوزان دون 40 كيلوغرامًا ورضع خدج. وطالبت بفتح ممرات إنسانية فورًا.

تقييم نقدي لدور الأمم المتحدة بين التقاعس والعوائق

في الختام، لا بد من تقديم تقييم صريح لأداء الأمم المتحدة في التعامل مع المجاعة في غزة، وطرح السؤال الجوهري: هل كان تأخر المنظمة في إعلان المجاعة مجرد التزام بالمعايير الفنية؟ أم أنه تردد يعكس فشلًا أخلاقيًا في مواجهة كارثة موثقة بالصوت والصورة؟

إن الصورة قاتمة، ليس بسبب الشعارات الرنانة، بل بسبب المعطيات الميدانية الحية: أطفال يصارعون الموت جوعًا، وعائلات منكوبة تبحث عن فتات الخبز في القمامة، ومراكز إغاثة تتعرض للقصف المتعمد.

وكل ذلك موثق على شاشات التلفاز وشبكات الإنترنت في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، تتردد المنظمة الأممية في إطلاق وصف "المجاعة"، وكأن الصور والشهادات ليست كافية ما لم تمر عبر إجراءات منهجية وبيروقراطية معقدة.

من الناحية التقنية، يمكن فهم رغبة الأمم المتحدة في احترام أدوات التصنيف العلمي وضمان مصداقية بياناتها. لكن هذا الحذر، في ظل واقع إنساني بالغ القسوة، يتحول إلى عبء ثقيل. إذ إن انتظار دلائل كمية "مثالية" في مناطق يُمنع فيها الوصول وتُقطع فيها الاتصالات، هو ضرب من ضروب الإنكار غير المبرر.

لقد تحولت المعايير الفنية إلى ذريعة يُعلق عليها التأخير، على الرغم من أن كل مؤشرات المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) قد تجسدت فعليًا على أرض الواقع. فالصور لا تكذب أبدًا، ولا تنتظر استبيانات.

أما من الناحية السياسية، فالأمر أشد تعقيدًا وتشابكًا. إن إعلان المجاعة في غزة يُعد بمثابة إدانة صريحة لسياسات إسرائيل اللاإنسانية، وقد يزيد من القناعة بضرورة مساءلة إسرائيل دوليًا بموجب القانون الدولي الإنساني.

هذه الخطوة تدرك الأمم المتحدة أنها ستواجه بسببها ضغوطًا هائلة، خاصة من الدول الكبرى التي تدعم إسرائيل بلا حدود. لذلك، آثرت المنظمة حتى الآن استخدام لغة دبلوماسية حذرة، وفضفاضة، لا تضع الأمور في نصابها الصحيح.

ولكن ما الذي تبقى من دور الأمم المتحدة إذا كان الخوف من الصدام السياسي يشل قدرتها على الشهادة على الجرائم؟ إن الأمم المتحدة ليست مجرد هيئة فنية؛ إنها حكومة عالمية تمثل الضمير الإنساني الدولي. وإذا اختارت الصمت أو التردد في لحظة كارثية كهذه، فإنها تفرط فيما تبقى من مكانتها الأخلاقية الرفيعة.

في غزة، الوقت يمر بسرعة البرق، وكل ساعة تأخير تعني موت طفل بريء أو أم مفجوعة أو مسنّ وحيد. وكل عبارة حذرة تصدرها الأمم المتحدة تُفسر في الميدان على أنها رضا ضمني، أو على الأقل كعجز مؤسف عن قول الحقيقة.

الحقيقة المرة هي أن الأمم المتحدة - على الرغم من التحذيرات المتتالية من منظماتها مثل اليونيسيف والأونروا وبرنامج الغذاء العالمي - لم تجرؤ بعد على النطق بكلمة "مجاعة". وهي بذلك تفرغ تحذيراتها القوية من مضمونها، وتفقد القدرة على حشد العالم لإنقاذ ما تبقى من الحياة في غزة.

لا يكفي أن تقول المنظمة إنها "تشعر بقلق بالغ"، بل عليها أن تسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، وأن تتحمل تبعات إعلان الحقيقة المرة، لا أن تساير مصالح الأقوياء والمتنفذين.

وإذا استمرت الأمم المتحدة في هذا المسار المخزي، فإنها لا تفرط فقط بواجبها المقدس تجاه غزة، بل تفرط بمبرر وجودها ذاته. إن حياة مئات الآلاف من البشر الأبرياء، ومصداقية النظام الدولي، ومستقبل آليات الحماية الجماعية، كلها معلقة اليوم على شجاعة تسمية الواقع القاسي باسمه: إنها مجاعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة